تطور استقدام الميكنة إلى عُمان
بقلم :
خليل بن عبدالله الخنجي
اتحتفلُ بلادنا هذه الأيام بالذكرى الثالثة لتولي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في البلاد، وجلالته هو السلطان الرابع عشر لعُمان من سلالة المؤسس الأول للدولة البوسعيدية الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، وبين عهود السلاطين وعهد السلطان هيثم- أبقاه الله- كثير من الأحداث والإنجازات.. ولعل تاريخ تطور الميكنة ارتبط ببدايات انفتاح المواطنين والمقيمين في عُمان على محاسن استخداماتها التي ساعدتهم على مواكبة التقدم في دول العالم وساهمت في تسهيل حياتهم اليومية.
وعند استعراض التجارب العالمية الحديثة، نجد أن العالم قد عاش في رتابة مُملة لولا قدوم الثورة الصناعية الأولى التي بدأت في القرن الثامن عشر بالمملكة المتحدة والتغيرات التي حدثت جرائها وأثرت على قطاعات الزراعة والتجارة والصناعة والنقل البري والبحري نهايةً بوسائل الطيران، مما كان له الأثر الكبير على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذه الثورة الصناعية الكبرى في حينها، انتشرت بعد ذلك إلى جميع أنحاء أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان، وإلى بقية دول العالم المتقدم (كما أسموه لاحقًا). والثورة الصناعية تمثل نقطة تحول رئيسية في التاريخ؛ حيث بلغ تأثيرها إلى كل جانب من جوانب الحياة أبرز تأثيراتها كانت على متوسط الدخل وارتفاع عدد السكان الذي لم يسبق له مثيل حيث ازداد متوسط دخل الفرد في العالم أكثر من عشرة أضعاف، بينما ارتفع عدد السكان أكثر من ستة أضعاف في العام 1800م.
اوعند العودة للحديث عن عُمان نجد أن الميكنة وصلت متاخرةً نوعًا ما وذلك بسبب الإمكانيات والظروف التي سادت عموم الجزيرة العربية حتى القرن الثامن عشر، أبرزها قلة السكان وضعف إمكانيات الساكنين فيها.
ولعل من بين أولى المصانع التي أنشِئت في مطرح كانت “كارخانه القاشع” الذي جلبها باقر الحاج عبداللطيف فاضل، الاسم التجاري المشهور الذي تمَّ تأسيس تجارته بمطرح في العام 1895م، المصنع الآلي لطحن السردين- أو “العومه” كما يطلق عليه محليًا- وهو المصنع الذي تم استيراده من جمهورية التشيك وتم تدشينه من قبل السلطان سعيد بن تيمور شخصيًا، واستمر إنتاجه وتصدير منتجاته لغاية نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وكذلك مصنع آخر للثلج (معمل الثلج الوطني بمسقط) وتأسس في عام 1911م إبان عهد السلطان فيصل بن تركي، وذلك بعد إنشاء جمعية من التجار والوجهاء على رأسهم الوجيه الزبير بن علي بن جمعة؛ ليتم إنتاج الثلج بماكينة تعمل بمادة الكيروسين.
أما أول محطة كهرباء في ولاية مطرح فقد بدأ العمل على إنشائها في العام 1951 من قبل بعض التجار وعلى رأسهم التاجر الوجيه موسى عبدالرحمن حسن الرئيسي، والشيخ محمد بن عمير الهنائي، ووالي مطرح إسماعيل بن خليل الرصاصي، والحاج محمد موسى عبد اللطيف، والحاج محمد علي ساجواني، وقبل هذه المحطة تم إنشاء محطة حكومية للكهرباء في مسقط بجانب قصر العلم العامر، أما أول طابعة في مسقط فكانت المطبعة التي أدخلتها الإرسالية الأمريكية في العام 1895م تلتها المطبعة السلطانية عام 1959م.
أما أول سكة حديد على الأراضي العُمانية، فقد شُيدت في جزيرة مصيرة في العام 1943م. وعند الحديث عن النقل البحري عبر الأزمنة فقد كانت عُمان رائدة في هذا المجال؛ كون سكانها على المناطق البحرية قد برعوا في ذلك رغمًا؛ وذلك لعدم وجود الميكنة، حتى تم اختراع أول محركات الديزل من قبل المهندس الألماني رودولف ديزل في عام 1892، الذي على أثرها تم استيراد محركات السفن بالديزل من مدينة عدن حاضرة الجزيرة العربية حينذاك.
أما تمديد المياه إلى المنازل، فقد تم متأخرًا في العام 1968؛ حيث أمر السلطان سعيد بن تيمور بمد المياه للمنازل في كل من مطرح ومسقط، عن طريق شفط المياه من الآبار الإرتوازية من وادي عدي في مسقط ومدها إلى البيوت، إضافة لإقامة محطات تعبئة مجانية لعامة القاطنين في الأحياء. ولكن سبق ذلك، المحطتان التابعتان لبعثة الإرسالية الأمريكية في كل من مطرح ومسقط؛ حيث تم شفط المياه من الآبار عن طريق المضخات التي تعمل على المراوح الهوائية، وكان هذا يعد من الآلات المتقدمة في سحب المياه الجوفية حينذاك.
وخلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي، سمحت حكومة السلطان سعيد بن تيمور باستيراد مكائن الماء للأغراض الخاصة المشتغلة بالديزل؛ لتحل محل “الزيجرة” التي استُخدمت عبر التاريخ لسحب المياه من جوف الأرض، بجانب السقي عن طريق الأفلاج، وتم السماح أيضًا باستيراد مولدات الكهرباء الصغيرة لاستخدامها في المزارع والبيوت التي حلت محل القناديل والملاهب اليدوية (الملاهب جمع ملهبة كما تسمى محليًا). وتلك المكائن تم استيرادها عن طريق بعض التجار في مسقط ومطرح، ولكن يشترط أخذ إذن مسبق من مُمثل السلطان (المستر تشونسي) ويُصرف الترخيص لكل طلب على حدة، وبحجم أقصاه 3 كيلواط لكل ماكينة كهرباء مستوردة وحجم 3 بوصات لمضخات المياه.
في أربعينيات القرن الماضي، افتُتحت عدة وكالات في كلٍ من مسقط ومطرح لبيع المعدات وقطع غيارها والخدمات المصاحبة لها في جميع أنحاء عُمان، ومن أشهر تجار المكائن علي بن خلفان القاسمي، وناصر بن عبداللطيف السركال، الذيْن أسسا تجارتهما في العام 1947 (وكلاء مكائن بيتر Peter) في بناية طالب بمطرح، ومحمد وأحمد الخنجي وكلاء مكائن Willers وGTC الهندية، إلى جانب موسى بن عبدالرحمن حسن وكيل مكائن Lister، والذي تخصص في قطاعات الكهرباء والمياه وتعبئة الوقود عن طريق شركة BP، إضافة إلى عدد من المجالات.
أما محطات SHELL للوقود فكانت تابعة لشركة كيمجي رامداس التي انتشرت في أغلب ولايات ساحل الباطنة والداخلية، إضافة لمسقط ومطرح منذ العام 1952م تزامنًا مع دخول مزيد من المركبات والشاحنات إلى عُمان حسب التراخيص المسبقة من السلطان سعيد بن تيمور الذي كان يأمر بالسماح للمركبات الجديدة والقديمة من عدمه علمًا بأن استيراد السيارات كان متاحاً في السابق من دون أي ترخيص وكانت عدن مركزًا لاستيراد المركبات الأمريكية وغيرها من الوكالات الحديثة إلى بقية دول الخليج.
أما أوائل وكلاء السيارات في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين في عُمان فهم: موسى عبدالرحمن حسن وكيل شاحنات بيدفورد Bedford البريطانية وسيارات هولنديًا الأسترالية، وكيمجي رامداس وكلاء سيارات فورد Ford الأمريكية، وشركة الزواوي التي استوردت سيارات مرسيدس الألمانية، وشركة أحمد وحيدر درويش وكلاء سيارات لاندروفر الإنجليزية.
وبالنسبة لآليات الاتصال السلكي واللاسلكي من وإلى عُمان تشير الوثائق التاريخية البريطانية التي ذكرت عن مد أول خط تلغراف في الشرق الأوسط بعُمان وبين مدينة مومباي في الهند والبصرة في العراق ومدينة جوادر إلى جزيرة التلغراف العُمانية في محافظة مسندم في عام 1864م، ومن ثم كيبل تلغراف آخر بين مدينتي عدن ومسقط في العام 1877، تلت ذلك سنوات من الازدهار في قطاع المواصلات السلكية واللاسلكية في بدايات القرن العشرين وكذلك خدمات البريد والبرق التي تم استخدامها في عُمان قبل وصول الكهرباء إليها.
اوبحلول الثالث والعشرين من يوليو عام 1970، تولى السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- الحكم؛ وبدأ بتعديل اسم البلاد من سلطنة مسقط وعُمان إلى سلطنة عُمان، وبذلك تم رفع كل الممنوعات من اقتناء الآلات والمكائن والمركبات وبالتالي توسعت التجارة والاستيراد وزادت على إثرها الوكالات والمحلات ومعارض السيارات بشتى أنواعها ومن مختلف البلدان، ودخل الأسواق تجار جدد بوكالات جديدة للسيارات والمعدات، وتطورت البلاد من كل النواحي؛ في النقل البري والبحري والجوي وقطاع الاتصالات الذي شمل البريد والبرق والهاتف والأقمار الصناعية والإذاعة والتلفزيون وتحلية المياه وإنتاج الكهرباء عن طريق التوربينات العاملة بالغاز، إلى آخره من التطورات، حسب ما وعد به السلطان قابوس عند استلام زمام حكمه بعد حكم أبيه للبلاد منذ العام 1932م، فقد وعد السلطان قابوس العُمانيين بدولة عصرية مواكبةً لبقية دول العالم، وأنجز رحمة الله عليه.
هذا ملخص لجزء من تاريخ دخول الميكنة إلى عُمان، بفضل الثورة الصناعية التي حولت العالم من الوضع الصامت إلى محركات تضج في جميع مناحي الحياة، واستمر التطوير حيث شهد العالم خلال الثلاثة قرون الماضية ثورة صناعية ثانية وثالثة ورابعة حتى وصلنا الآن إلى صناعة السيارات الكهربائية ومحطات توليد الطاقة الكهربائية بالطاقة الشمسية والمولدات البحرية والهيدروجين الأخضر والأزرق والطابعات الثلاثية الأبعاد والصناعات الغذائية والدوائية المتطورة والطائرات من دون طيار (الدرون) التي تصل الشرق بالغرب، والتي بإمكانها حمل الضرورات وإيصالها إلى أماكن لا تصل السيارات إليها، أما الهواتف الذكية العاملة بالأقمار الاصطناعية التي تستخدم في كل مجالات الحياة من معاملات مصرفية إلى ممارسة الحقوق المدنية مثل الانتخابات البرلمانية منها التجربة العُمانية الناجحة في انتخابات المجالس البلدية في الآونة الأخيرة بالتصويت عبر الهواتف الذكية.
ختامًا… ونحن في مستهل عام ميلادي جديد وبلادنا العزيزة على موعد للاحتفال بالذكرى الثالثة لتولي جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- نصره الله- مقاليد الحكم، نجد هذا العام يحمل معه تباشير النقلة النوعية من المشاريع العملاقة في سلطنة عُمان، لا سيما في مجالات الطاقة بجميع أنواعها؛ التقليدية والبديلة والتي تعد أساس عمل الميكنة، إضافة إلى مشاريع إنتاج بعض المعدات التي تعتمد عليها الدول ولعل مصفاة النفط والحوض الجاف ومصنع الحافلات ومصانع البتروكيماويات واليوريا والأمونيا ولوى للبلاستيك ومصاهر الألمونيوم والحديد والمنتجات الأخرى، التي تزخر بها المناطق الصناعية في البلاد، وكل ذلك خير دليل على تصدير عُمان لكثير من المنتجات بدلًا من استيرادها، ونجد حرص جلالة السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله- على أن يكون للشباب العُماني مجال أرحب بها عبر تشجيع الجيل الحالي للإسهام في الجهود التي تبذلها حكومة جلالته في مجالات التنويع الاقتصادي وتنمية المحافظات وجذب الاستثمارات وتمكين هذه المشاريع من إيجاد فرص وظيفية للمواطنين، آملين أن تكلل هذه المسيرة المباركة بتحقيق ما يصبو إليه المواطن من تطوير في كل المجالات، وبذلك تستمر عهود السلاطين المباركة متوجةً بعهد السلطان هيثم بالإنجازات والأحداث الزاخرة بالفرص الاقتصادية والحماية الاجتماعية لجميع المواطنين.
===============================
** الرئيس الأسبق لغرفة تجارة وصناعة عُمان