رياح الديموقراطية .. التي تهب احيانا
محمد محمود عثمان
البلاد العربية التي قدمت للبشرية مبادئ الشوري والدولة المدنية الحديثة من 14 قرنا، لازالت تشهد تقاطعات بين المد والجزر في الممارسات الديموقراطية التي سبقتنا فيها الدول الأحدث وجودا وتاريخا ، حتى تبدوا أغلب تجاربنا في الديموقراطية كرد فعل وليس كفعل نابع من ايدولوجيات نابعة من الثقافة العربية
وأصبحت الديموقراطية تفرض عليها من الخارج وفق اجندات سياسية غربية أوإمريكية على وجه العموم تدعمها منظمات حقوق الإنسان المسيسة ،
وفي كثير من الأحيان قد تكون بعض الممارسات قبلية أو شكلية أو مجرد ديكور لتجميل الوجه السياسي ديموقراطيا
ولكن بين الحين والآخر تغازلنا على استحياء رياح الديموقراطية التي تهب على المنطقة من الداخل ومن الشمال أو الجنوب ، ولكن على فترات متباعدة ومنها ، تجربة “سوار الذهب ” في السودان عام 1985 ، التي طبقها الفريق اول عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب القائد العام للجيش ووزير الدفاع في نظام الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، فقد أعلن سوار الذهب انحياز الجيش للشعب، في «عملية بيضاء»، لا قتلى ولا جرحى، وسجلت التجربة على مستوى العالم العربي كأول تجربة يقوم فيها عسكري بتولي السلطة وأمور الحكم في البلاد بانقلاب عسكري، ويلتزم بتعهدات قطعها على نفسه باعادة السلطة الى الشعب عبر القوى المدنية التي تمثله خلال عام واحد ، ويقبل طواعية فكرة التنحي عن الحكم، وخلع البزة العسكرية، والانتقال الى المجتمع المدني، وللأسف لم تؤثر التجربة عمليا على مستوى المنطقة ، ولقد شككت في تصديقها في ذلك الوقت، حيث لم نتعود على ذلك في منطقة الشرق الأوسط ،وهو ما جعل العالم مندهشاً من تصرفه خاصة في المنطقتين العربية والأفريقية ، ولكن صدق الرجل وأوفى بوعده ، و صارت التجربة – مثالا يحتذى- وأصبحت تجربة سوار الذهب في الحكم وتفضيله الاعتزال على التمسك بالسلطة مثار إشادة من مختلف السياسيين والمثقفين؛ باعتبارها خطوة نادرة في الثقافة العربية والعسكرية ، لأن سوار الذهب هو الرئيس العربي الوحيد الذي لم يغادر كرسي الرئاسة ميتًا او معتقلًا أو منفيًّا أو مسجونًا أو فارًا أو متنحيًا او متنازلًا عن العرش بناء على الضغوط الداخلية أو الخارجية أونتيجة لثورة شعبية أو انتفاضة أو انقلابًا عسكريًّا آخر. فعل ذلك بكامل إرادته، مقتنعًا بأن الحكم الديمقراطي هوحق الشعوب ،و أصبح حالة فريدة لم تحدث ولم تتكرر ولم يتعلم منها أحد في التاريخ العربي المعاصر حتى الآن ، لذلك يستحق الفريق سوار الذهب أن نقلده “سوارات من الذهب الخالص ” ونضعها على قبره ، كمنارة ليتعلم منها من يريد إذا أراد ، ثم بعد نحو 15 عاما هبت رياح عاتية من داخل تونس في عام 2011، بعد ان أشعل الشاب التونسي محمد بو عزيزي النار في نفسه ،متسببا في اندلاع موجة احتجاجات شعبية غاضبة وعارمة على الوضع أدت إلى إسقاط الرئيس زين العابدين بن علي وهروبه من البلاد ، وكان ذلك ملهما للدول العربية التي يشكو مواطنوها من القهر وسوء الأحوال المعيشية وغياب الديمقراطية وقسوة الأجهزة الأمنية والاستبداد والفساد، فتبع ذلك ثورات الربيع العربي ، التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك ومن بعده محمد مرسي في مصر والعقيد معمرالقذافي في ليبيا والعقيد علي عبدالله صالح في اليمن، ثم ارتد السونامي مؤخرا في السودان وفي لبنان والعراق وقد ترتد موجات السونامي عاتية لتجتاح دولا أخرى، إذا استمرت في احتكار السلطة أو توارثها باسم الديموقراطية
ثم هبت من جديد رياح الديموقراطية من تونس مرة أخرى،بانتخاب الرئيس قيس بن سعيد المرشح المستقل ، انتخابا حرا مباشرا ،وهو من أهل العلم والقانون ،ليس له حزب يسانده ، ومتقاعد من الوظيفة الحكومية ، ولا يملك أموال للدعاية الانتخابية أوسائل إعلامية تروج له ،ولكن يبقى أن ننتظر التطبيق السليم والصحيح للديموقراطية ، بعيدا عن جوقة المنافقين أو أصحاب المصالح الذين يمكن أن يلوثوا هذه التجربة التونسية ، أو أن يرتمى الرئيس الجديد في أحضان تيارات سياسية أو دينية بعينها ، لأن السلبية الوحيدة لهذه التجربة كانت في عدم تكافؤ الفرص للمرشح المنافس نبيل القروي الذي حرم من قيادة حملتة الانتخابية وخروجه من السجن إلى مرحلة الصمت الانتخابي وهى فترة غير كافية بكل المقاييس والمعايير للمنافسة على منصب رئيس الجمهورية
ولعل هذه الرياح التي تهب على المنطقة بين الحين والآخر، أن تؤتي ثمارها ،
وأن تستوعب الأنظمة هذه الإشارات ، وأن نتنسم منها رحيق الديموقراطية في الأمد القريب ، في ظل استمرار تراجع جلّ الدول العربية في مؤشر الديمقراطية لعام 2018.وغياب الديمقراطية في المنطقة، رغم كل التوقعات الإيجابية، التي حملها الربيع العربي في بداياته.
===================