الثروة البشرية .. واستثمارها
محمد محمود عثمان
تهمل كثير من الدول النامية أهمية تعظيم الثروة البشرية التي تملكها بل إن البعض يعتبرها من معقوات التنمية ، أو إنها تمثل عبئا على ميزانية الدولة ،لأن الموارد البشرية التي لم يتم الاستفادة منها بطريقة مثلى ،من العوامل الضاغطة على المجتمع وعلى الأسر، وتحمل الاقتصاد أعباء باهظة تحول دون تقدمه ، ويسود هذا المفهوم عندما تعجز الإدارة عن حسن توظيف هذه الثروة وتفعيلها وتطويعها لتؤدي دورا حيويا وانتاجيا يتوافق مع قدراتها وتأهيلها ، وجعلها مشروعا استثماريا طويل المدى
وخاصة إذا كانت هذه الثروة قد كلفت ميزانيات الدول خلال مراحل التعليم المختلفة ما تنوء به الجبال – وإن كانت في تخصصات غير مطلوبة أو لا يحتاجها سوق العمل – وتحول معظمهم إلى متعطلين لعدة سنوات قد تطول أو باحثين عن عمل ( أي عمل ) ولو بعيد عن تخصصاتهم الدراسية ،بعد سنوات من اليأس والاحباط ، وهنا تكون الطامة الكبرى في إهدارالطاقات و الوقت والجهد والموارد المادية والبشرية ، التي تم انخراطها في منظومة تعليم بعيدة عن استراتيجية المجتمع وأهدافه وخططه التنموية ، لأن الثروة البشرية الحقيقية هي الشريحة القادرة على العمل أو الساعية إليه ، وتمثل أهم أركان التنمية الاقتصادية في كل المجتمعات ، ولكن تحدث الفروق الحقيقية بين المجتمعات في كيفية الاستفادة القصوى منها ، كما يحدث في الدول التي تقدمت بدون أن تمتلك عناصر الإنتاج من الموارد الطبيعية أو المواد الخام ، ولكنها استثمرت ثروتها البشرية بداية من التعليم الجيد والتدريب والتمكين والتأهيل ، وهي مسؤولية الإدارات الواعية الرشيدة وبعيدة النظر ، التي تهتم بهم من بداية المراحل التعليمية ووضعت خريطة طريق واضحة ودقيقة تعمل من خلالها كل القطاعات الإنتاجية والخدمية ، تعتمد على قاعدة بيانات تحدد احتياجات سوق العمل في العشرين عاما القادمة ومستوى المهارات والخبرات والمهن المستقبلية المطلوبة التي تواكب التطورات التقنية والتكنولوجية التي تتوالد بسرعة فائقة تفوق كل التوقعات ، والتي تلبي في ذات الوقت حاجة وطموحات الشركات والمستثمرين ، حتى لا تتسع الفجوة والهوة بين العرض والطلب ، لأن توافر العناصر البشرية بهذه المعايير والمواصفات يعد من أهم العناصر الحاكمة في ترشيد النفقات وتكلفة التشغيل ، وهى من العوامل المؤثرة في الحصول على مميزات تفضيلية في إطار المنافسات العالمية وجذب المستثمرين والاستثمارات الأجنبية ، التي تعتبر توافر العمالة الرخيصة والمدربة ضمن أوليات اختياراتها لمواطن الاستثمار الجديدة المحلية أو العالمية التي تبحث دائما عن المناخ الأفضل ،
لأنه ليس من الصواب إذا حاولنا فرض الأيد العاملة غير المدربة أو المؤهلة تأهيلا فنيا جيدا على الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص حلا لمشاكل الباحثين عن عمل ، التي بدا ت في التخلص من بعض الأيد العاملة لدياها – برغم خبرتها – تهربا من تكلفة الأجور والمرتبات ، لأن القطاع الخاص لديه مشكلات تتعلق بحجم المديونيات ونقص السيولة وندرة الاستثمارات الجديدة ، وليس لديه القدرة على تحمل هذه المخاطر، حتى بعض الشركات أفلست أو تعثرت والأخري حولت أنشطتها إلى وجهات أخرى تقدم لها التسهيلات وتبسط من الإجراءات وتحارب الروتين والبيروقراطية وتتمتع بالمرونة الكافية ، للتعامل مع المتغيرات والمستجدات والتفاعل معها إيجابيا ، وليتنا ندرك مبكرا أن العصا السحرية للتقدم تبدأ من الثروة البشرية كأداة فاعلة ومؤثر في التنمية الشاملة التي نستهدفها باعتبار أن الاستثمارفي البشرأفضل وأهم الاستثمارات ، لأنه المحرك الأقوى والأكثر استدامة لتغذية قطاعات سوق العمل ومده باحتياجاته ومتطلباته الآنية والمستقبلية
لذلك بات واضحا أمام الادارات الحديثة أن إهمال الثروة البشرية وإغفال صقلها ومنحها الفرص في العمل والإبداع ، في أي مجتمع هو تجنى على الاقتصاد وهدم لدعائمه الأساسية وقوته الدافعة ، وتبديد لأهم طاقاته التي يستمد منها القدرة على النمو والاستدامة والتقدم والتحفيز على زيادة الإنتاج والإنتاجية ، وتوفير قيمة مضافة حقيقية لإجمالي الدخل القومي
وهذا هو التحدي الحقيقي أمام الدول النامية وخاصة التي تعمد على مصادر محدودة للدخل أو الاعتماد على الاقتصاد الريعي بدون الاستفادة من عائداته في مشروعات أو استثمارات جديدة ، والتي تسعى إلى الانتقال إلى صفوف الدول المتقدمة أو حتى اللحاق بها ، لأن نجاحها في تطوير طاقتها الرئيسية في العمل وهى الثروة البشرية ، يعد طريقها الوحيد إلى المستقبل، خاصة أن تقارير المنظمات الدولية المعنية تعطي مؤشرات سلبية أو سوداوية – إذا كانت صحيحة – حول ساعات العمل الفعلية للعاملين في القطاعات الحكومية في عالمنا العربي لا تزيد عن نصف ساعة يوميا ،الأمر الذي استمرفإنه يدفعنا دفعا وبقوة إلى الخلف ، قياسا على معدلا العمل الفعلية في دول مثل اليابان وفرنسا وألمانيا التي تصل إلى أكثر من 7 ساعات عمل حقيقي يوميا